سلامة موسى: مسيحي في عمق الحركية الإسلامية.

 سلامة موسى: مفكر مصري عمل في الصحافة و في البحث و التأليف، شغلته إشكالية النهوض فناقشها في عدة مؤلفات أهمها: “ما هي النهضة” و هو عبارة عن دفاع فكري عن نظرته الخاصة لأسباب تخلف العرب و الأسباب الواجب اتخاذها للخروج من ذلك التخلف كما يعد كتابه “المرأة ليست لعبة الرجل” نموذجا للطرح العلماني لمشكلة مركزية في العالم الإسلامي: مشكلة دور المرأة و من خلالها نموذج التربية القادر على إنهاض الأمة و إلحاقها بركب الدول المتقدمة.

يعرف سلامة موسى النهضة بكونها:

ثراء وقوة و ثقافة و صحة و شباب و لكن الثراء قد يكون مؤلفا من نقود زائفة كما قد تكون القوة و الثقافة و الصحة و الشباب خداعا و ليس حقيقة(1.

العناصر التي يحددها سلامة موسى لتعريف الثقافة هي عناوين تختلف مضامينها من مجتمع لآخر و الاختلاف يكمن في درجة القوة و التميز فالقوة و الثقافة و الصحة و الشباب هي العناصر و الصفات الملحقة بها هي المؤشر: القوة في الخير و التقدم و الثقافة في البناء و التنمية و الصحة الجسدية و النفسية من أجل تحقيق المشاريع المفيدة و الشباب المتفتح المتقدم الواعي و المتوازن الذي يستطيع تحمل عبء التغيير الإيجابي و العمل الإيجابي.

سلامة موسى يرى أن المؤشر الاقتصادي هو المحدد لاتجاه الحضارة:

الحالة الاقتصادية كما تقرر لون الحضارة الراهنة كذلك هي إلى حد بعيد تقرر لون الثقافة الراهنة و السبب الأساسي لانحطاط الثقافة أو ارتقائها أو صبغها بلون خاص و توجيهها إلى ناحية معينة دون أخرى هو السبب الاقتصادي(2).

و ستتضح أبعاد هذه الفكرة في تحليل سلامة موسى لإشكالية النهوض، كما يعلل سلامة موسى طرحه ذلك بالعلاقة التي يراها بين النمو الحضاري و الاتجاه إلى التجارة بدل الزراعة:

ميدان التجارة أوفق للثقافة من ميدان الزراعة فميدان الزراعة لركودها يقنع بما شاكلها من ثقافة

راكدة بينما التجارة تطوف في أنحاء العالم و الصناعة تحتاج إلى مكتشفات متوالية (3).

التطورات التي شهدها العالم تبين أن مثل هذه الأولويات ليست صحيحة فالزراعة هي رهان مصيري لأي مجتمع و هو السلاح الأخضر الذي تساوم فيه الدول التي لم توله أهمية و ليست هناك أمة متقدمة لم تهتم بالميدان الزراعي الذي يرتبط بالميادين الحيوية الأخرى: الصناعية و التكنولوجية و التجارية و الثقافية و اليوم النقاش انتقل إلى المواد الزراعية المعدلة جينيا: و إذا كان تخلف الثقافة يرتبط بتخلف الزراعة فإن التجارة أيضا ترتبط بمدى التطور الحاصل في المجتمع: فالمجتمعات التي تصدر كل موادها الخام من المعادن و المحروقات لتستورد المواد الغذائية لا يمكنها أن تحقق استقلالها و بالتالي اختياراتها في جميع الميادين.

يربط سلامة موسى بين النهضة و التطور و الاتجاه العام للثقافة فهو يرى أن الانحطاط يصيب المجتمعات عندما تصبح الثقافة:

تخدم شؤون العالم الثاني بدلا من أن تخدم الإنسان على هذه الأرض(4).

و يشرح سلامة موسى فكرته بتوضيحه أن الانحطاط ينتشر في أمة من الأمم عندما تنتقل الثقافة من:

البشرية و المادية أي خدمة البشر و معالجة المادة إلى الدينية أي خدمة الدين و الغيبيات(5.

و يستنتج سلامة موسى من قراءاته لتاريخ الأفكار من وجهة نظره:

لهذا كانت النهضة قائمة على حركات بشرية أي النظر إلى هذه الدنيا كأنها الغاية و أننا نحن البشر يجب أن تكون لنا آداب و فلسفات و علوم لا تمت بأية صلة إلى الغيبيات و أن علينا أن نعتمد على أنفسنا في تحقيق السعادة على هذه الأرض نفسها(6.

لا يوضح سلامة موسى ما هي هذه الحركات ، فإذا كانت بعض التيارات الفكرية في أوربا حاولت وضع فلسفات و آداب بعيدا عن الخلفيات الغيبية فإن النهضة الأوربية عندما قامتلم تتبرأ من الدين كما يوحي به سلامة موسى7 كما أن أزمة التيارات الفكرية المعادية لأي منحى ديني دليل على خطأ المنطلق و هذا لم يثر حفيظة سلامة موسى لأن له هدف من استنتاجاته تلك و هو الإسقاط على واقع العالم العربي و مصر تحديدا.

بعد التدرج في تبيان بعض عناصر النهضة و أهم خصائص الثقافة التي تدفع إلى النهوض يحاول

سلامة موسى تقديم تعريف إجرائي للنهضة يقربه من عنوان لبرنامج عمل:

النهضة هي تحرير الشخصية البشرية من التقاليد و الغيبيات و إنها إقبال على العالم التجريبي و إنها فصل الدين عن الدولة و إنها دعوة للإنسان كي يأخذ مصيره في يده و يتسلح على القدر بدلا من أن يخضع للقدر و أنها انتزاع الخير من الطبيعة و إخضاعها و ليس الانتظار كي تأتي إليه الطبيعة بفضلها و برها(8.

الموقف الواعي النقدي من التقاليد و الإقبال على العالم التجريبي و انتزاع الخير من الطبيعة وإخضاعها: عناصر أساسية في عملية النهوض و لا يمكن أن يختلف مع سلامة موسى أي عاقل ولكن التطرف في نبذ التقاليد و اعتبار العالم التجريبي مغن عن العالم الغيبي و فصل الدين عن الدولة و معاندة القدر بتحد جارف، هذه المواقف هي التي تجعل من دعوة سلامة موسى في مجتمع إسلامي دعوة غريبة عن الروح التي تميز هذا المجتمع.

حمل سلامة موسى دائما في خلفيته الفكرية النموذج الأوربي للنهضة و لكن بقراءته الخاصة لتفاصيله فإذا كان من أهم عوامل النهضة الأوربية: الرجوع إلى اللغات القومية فإن سلامة موسى يدعو إلى عكس ذلك بطريقة توحي بأنها أسلم طريق بل الطريق الوحيد إلى النهضة:يقول سلامة موسى:

أعظم تراث اجتماعي لأية أمة هو لغتها و إذا استعصت هذه اللغة على الفهم و إذا صعب تعلمها أو إذا عجزت عن الأداء العصري، و استيعاب العلوم و الفنون العصرية فإن كل شيء بعد ذلك سيعصى على الأمة ما لم تنبذ لغتها و تتخذ لغة أجنبية(9.

إن قاعدة الثقافة هي اللغة و لا يمكن بتاتا إيجاد ثقافة راقية متحركة بلغة جامدة و ليعطي سلامة موسى الدليل على صحة أفكاره، يورد حالة الكاتب المصري التي يقرأها من منظوره الخاص فيقول:

إن للكاتب المصري مشكلات عديدة و مشكلة اللغة قد تعرض في مقدمة المشاكل الماثلة، ذلك أننا نعالج موضوعات عصرية بلغة غير عصرية 10

يلاحظ إذن أن سلامة موسى يدعو إلى نهضة بعيدة عن دين الأمة و عن لغتها و الدين و اللغة هما

أهم ركائز أي مجتمع و أية أمة و ستتضح لاحقا أكثر تفاصيل مشروع سلامة موسى الذي دافع

عنه:يرى سلامة موسى أن الأوربيين أثرياء لأنهم صنا عيون11

و يرى سلامة موسى أيضا أنه:

لا يمكن لأمة أن تعيش في حضارة صناعية ما لم تحذق الثقافة العلمية التي أدت إليها و هي إذا أهملت هذه الثقافة العلمية فإنها سرعان ما تعود إلى الحضارة الزراعية التي تنتكس إليها كل أمة حين تتقهقر ثقافتها12

يوافق العقل المتوازن سلامة موسى على اشتراطه الأخذ بالثقافة العلمية لتحقيق النمو الصناعي الضروري لأي مجتمع حديث و لكن الزراعة ليست نقيض الصناعة بل رديفتها و يمكن فهم هذا التحامل من سلامة موسى على الميدان الزراعي من خلال ربطه الدائم بين الزراعة و التخلف و كأن المجتمعات المتقدمة صناعيا لم تصل إلى ذلك التقدم إلا بإهمالها للزراعة و الجملة التالية تبين بوضوح الخلل الذي يحمله سلامة موسى في تفكيره إزاء المسألة الزراعية:

ليس من المستطاع أن تأخذ أمة بالحضارة العصرية إذا كانت تعيش على ثقافة قديمة13

أي أن الحضارة العصرية هي المرادف للتطور الصناعي و أن الثقافة القديمة هي المرادف للاهتمام بالميدان الزراعي و هي معادلة غير متوازنة و مرتبكة و غير منطقية أيضا.

النموذج الماثل أمام سلامة موسى هو الحضارة الأوربية و هو لا ينظر إليها إلا كقدر يجب التسليم له كرها أو طواعية:

((الحضارة الأوربية تتغلب و تسود أينما وجدت في هذا العالم و لا يمكن لأية أمة أن تحيا إذا خالفتهم و نعني بالحياة هنا حياة القوة و العلم و الثراء))14

يعني هذا أن البشرية عاجزة عن إيجاد نموذج للتطور و التحضر خارج الأطر الأوربية و عبارات سلامة موسى تذكر بفكرة اكتساح النموذج الأوربي للعالم الذي تحدث عنها خير الدين التونسي و رفاعة الطهطاوي و هي نفس النغمة التي تحملها اليوم أفكار عولمة النموذج الأمريكي أو الأمركة.

و يدعم سلامة موسى فكرته بمثال اليابان:

حتى اليابان، هذه الأمة الآسيوية العتيقة لم تنهض و تبلغ مستواها العالمي قبل الحرب الأخيرة إلا بعد أن أخذ بأصول الحضارة الأوربية15).

و هذا المثال الذي يورده سلامة موسى يطعن فيه الكثير من الباحثين الذين رأوا بالعكس أن النموذج الياباني مثلا يبين أن التطور و النهضة يمكن تحقيقيهما دون التبرأ من الأصالـة و الثقافـة الخاصـة، فاليابان كما يقول مالك بن نبي كان تلميذا واعيا للحضارة الأوربية أي يستفيد من العلم

بوعي و استقلالية روحية.

يورد سلامة موسى مثالا ثانيا هو الهند فيرى أن:

نهرو الهند زعيم الهند العظيم ليس سوى رجل أوربي يتكلم باللغة الهندوكية16.

صحيح أن نهرو كان رجلا ملحدا غير ملتزم بعقائد مجتمعه على النطاق الشخصي و لكن أول من أيده و وقف إلى جانبه هو غاندي الأب الروحي للهند الحديثة، كما أن الهندوكية ليس فيها نظام مجتمع خاص يفرض على الحاكم الالتزام به، ففصل الدين عن الدولة في الحالة الهندية شيء طبيعي و هو لا ينطبق على حالة مصر المسلمة.

و من غير تردد يوضح سلامة موسى مرمى إيراد نظرته للمثالين فيقول:

((لا أستطيع أن أتصور نهضة عصرية شرقية مالم تقم على المبادئ الأوربية للحرية و المساواة و الدستور مع النظرة العلمية الموضوعية للكون)17 

دفاع سلامة موسى عن فكرته في التماهي في النموذج الأوربي يصل إلى درجة ادعاء شرعية الدفاع عن ذلك النموذج أكثر من الأوربيين أنفسهم حيث يقول:

نحن الغرباء عن هذه الحضارة و عن هذه الثقافة الأوربيتين أقدر على فهمها لأننا نستطيع المقارنة18 

كان من المفروض أن يكون الاختلاف عن الحضارة الأوربية دافعا لتنمية الروح النقدية إزاءها و البحث عن أحسن السبل للدفاع عن الأسس التي تميز الثقافة الخاصة و تصنع قوة المجتمع و البحث أيضا عن أحسن السبل لاستثمار إيجابيات الحضارة الأوربية و تفادي سلبياتها و لكن سلامة موسى يوجه ذلك الاختلاف إلى ما يخدم الحضارة الأوربية و سيطرتها فهو يرى أن الأوربيين لا يعرفون مقدار أهمية و تفوق حضارتهم لأنهم لم يعرفوا المآسي التي يعيشها القاطنين على أطراف المركز الأوربي.

و لعل أبسط ملاحظة هي هل الأوربيون فعلا غرباء عن الحضارات الأخرى: ألم تكن تلك الحضارات إحدى أهم المنابع التي استفادت منها أوربا؟ و هل الأوربيون النهضويون فعلا لم يعرفوا الحضارات الأخرى و معروف في التاريخ أن الاكتشافات الجغرافية و الحضارية هي إحدى ركائز عصر النهضة. يقول سلامة موسى:

يجب أن لا نكون شرقيين و يجب أن نوقن بأن هذا التفريق بين الشرق و الغرب هو تفريق

استعماري يراد منه سيادة الغرب على الشرق، كلنا بشر لا نختلف إلا من حيث الرقي و

الانحطاط19

هذا التبرأ من الذات يعبر عن أزمة هوية سترافق سلامة موسى في جميع مؤلفاته فهو لا يرى أن القيم الإنسانية حتى و إن كانت مرتبطة بالذات الإنسانية ترتبط أيضا بالإسقاطات التي يضيفها كل مجتمع وفق منطلقاته الدينية و الثقافية:

يجب أن تكون القيم الأخلاقية و الاجتماعية بشرية قبل أن تكون مصرية أو إنجليزية أو هندية أو صينية، إنسان من البشر له حقوق البشر20

سؤال يفرض نفسه بعد هذه الجملة و هي من الذي يحدد خصائص هذه القيم الأخلاقية و الاجتماعية أي من يلونها و هي مرتبطة أشد الارتباط باختيارات الإنسان الأساسية أي عقيدته و هل الإنسان يملك القدرة و العلم و الحياد و هي الشروط الضرورية لإرساء قواعد سلوك تخدم الإنسانية بكل أبعادها في حياتها و مهامها.

لقد رافع سلامة موسى لصالح النموذج الأوربي في النهضة و لكن وفق قراءته الخاصة لذلك النموذج و رغم ذلك الانبهار و الاعتبار لذلك النموذج إلا أن القراءة المتأنية لبعض مؤلفات سلامة موسى تكشف تناقضه فحول وضعية المرأة يلاحظ سلامة موسى أن المرأة الأوربية لم تنل حقوقها الإنسانية كاملة و يطالب بأن يتحقق للمرأة المصرية ذلك:يقول بوضوح:

يجب أن تكون لنا فلسفة عن المرأة المصرية بحيث لا ننشد مساواتها بالمرأة الأوربية فقط بل نتجاوز هذه المساواة إلى آفاق إنسانية أبعد و أوفى و يجب ألا يكـون في قولي هذا ما يستغرب لأن المـرأة

الأوربية لا تزال دون المستوى الإنساني21

يفهم من قول سلامة موسى أنه موافق على كل ما تفعله المرأة الأوربية أو ما فعل بها و يطالب بالمزيد: إلى أي مدى؟ و بأية صورة؟ يمكن تتبع ذلك من خلال بعض الملاحظات التي تتوزع على كتب سلامة موسى و لكن بعيدا عن النظرة الشاملة المبنية على مبادئ ثابتة.

تحدث سلامة موسى على أن تقسيم العالم إلى شرق و غرب هو تقسيم استعماري منبوذ و رأى سلامة موسى أن المنفذ الوحيد لمصر للخروج من انحطاطها هو تبنيها للنموذج الأوربي فكيف يوفق بين كلمة استعمار و بين تبني نموذجه؟ و لا شك أن البحث في استعمالات كلمة الاستعمار كفيلة

بالمساعدة على الوصول إلى إجابات أقرب إلى الموضوعية. يقول سلامة موسى:

كنا نحن في مصر إلى سنة 1517 و هي السنة التي دخلت فيها بلادنا في حوزة الاستعمار التركي من أعظم الأمم في العالم حضارة و كانت التجارة العالمية بين آسيا و بين أوربا تلتقي في القاهرة و الإسكندرية و كنا على اتصال بأوربا و هو اتصال كان جديرا بأن ينقل إلينا نهضتها و لكن الاحتلال التركي حال دون ذلك و احتجنا إلى قرابة ثلاثة قرون و نحن في عزلة إلى أن جاءنا نابليون فشرعنا نستأنف اتصالنا بأوربا و الحضارة العصرية22.

رفع الأمس و يرفع اليوم شعار ربط مصر بأوربا فكريا و تاريخيا بعض المفكرين المصريين الذين يسعون إلى بتر مصر عن امتداداتها الإسلامية و قد دافع عن هذه الفكرة طه حسين في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر” و ترفع شعاره اليوم دوائر عديدة في إطار الفكر المتوسطي و عن طريق فكرة الشرق أوسطية التي تدخل إسرائيل في تركيبتها و إسرائيل هنا هي الممثل الشرعي للفكر و الحضارة الغربيين.

و كل من يسعى إلى هذا الربط يصف الوجود التركي في مصر بالاستعمار و يرى في نابليون المخلص التاريخي لمصر من براثن هذا الاستعمار و من تبعات أزمنة التخلف و الانحطاط.

و في الجملة التالية يظهر الالتباس في معنى الاستعمار جليا في فكر سلامة موسى:

لم نكسب من الأتراك لغة حية أو ثقافة ناهضة كما كسب الهنود مثلا من الإنجليز حين أخذوا بلغتهم و ثقافتهم اللتين جعلتا منهم أمة عصرية 23

فطريق العصرنة و التقدم لا يكون إلا بالأسلوب الإنسلاخي: بالتخلي عن اللغة و الثقافة الأصليتين و تبني لغة و ثقافة الاستعمار الذي لا يسميه سلامة موسى كذلك.

و رغم هذا يجب التحفظ من ملاحظة سلامة موسى حول تبني الهنود لثقافة و لغة الإنجليز تبنيا كاملا و قبولهما بطيب خاطر، و هنا تكاد تتقاطع أفكار سلامة موسى مع أفكار أحمد خان و إن كان الثاني قدم ثقافة وطنية ممسوخة مع دفع واضح لتبني ثقافة و فكر و لغة الإنجليز.

حملة نابليون على مصر و موقف محمد علي لاحقا من فرنسا، استرعى انتباه الباحثين و سلامة موسى في تحليله لهذين الحدثين يلغي تماما الحديث عن المقاومة المصرية و أبعادها و يكتفي ببعض المحطات العاجلة في المسار التاريخي للأحداث و بالقدر الذي يخدم طروحاته، يقول سلامة موسى:

محمد علي باشا جاء لاسترداد سلطة الباب العالي، اختاره العلماء لكنه دار عليهم و لما استقر الحكم

له استعان برجال الحملة الفرنسية أنفسهم لتقوية الجيش المصري و تدريسه دون الشعب المصري، و بعد وفاة محمد علي تعلم المصريون في بعض المدارس التي كانت مخصصة للجيش24

اختيار العلماء لمحمد علي باشا و فكرتهم عن الارتباط بالدولة العثمانية و انقلاب محمد علي باشا على العلماء أحداث تناولتها كتب التاريخ بفروقات واضحة و لكن سلامة موسى لا يريد أن يذكر أن محمد علي باشا انقلب أيضا على الباب العالي و حاربه و حاول الاستيلاء على أجزاء من الإمبراطورية العثمانية أي أنه لا يمثل الاستعمار التركي، كما لا يشير سلامة موسى إلى علاقة الدول الكبرى بهذا الصاعد الجديد محمد علي باشا الذي حقق بعض التطور المادي في مصر و لكنه كان ضحية طموح عسكري جارف و ضحية ترتيبات الدول العظمى التي استغلت غروره و يكتفي سلامة موسى بجر التحليل إلى ضرورة الاعتراف بأن نهضة محمد علي:

كانت في صميمها فرنسية تغذيها الثقافة الفرنسية و يحمل أعبائها فرنسيون، فالفضل في النهضة يرجع إلى حملة نابليون الذي عقد الصلة بين فرنسا و مصر صلة العداوات في الأصل ثم صلة الصداقة مع محمد علي بعد ذلك25

لقد سبق تناول جهود محمد علي باشا في الفصول السابقة و لكن هنا يجب موضوعيا و آنيا التساؤل:

هل فعلا انتشرت قيم الثقافة الفرنسية في مصر، تلك القيم الإيجابية التي صنعت نهضتها؟

و هل يمكن أن ينشر الفرنسيون الثقافة و الفكر في مصر على جثت الشهداء؟

و هل الفرنسيون كانوا من الكرم ما يجعلهم يغدقون على المصريين بما وصلوا إليه من ثمار سنين طويلة من البحث و الكشوفات العلمية؟

و يمكن الإجابة البسيطة عن هذه التساؤلات بالاستفادة مما قاله سلامة موسى و بالضبط في فهم كلمة الصلة بين محمد علي و فرنسا بالعمالة التي وصلت مثلا إلى تحالف مبدئي بين محمد علي و فرنسا لتقويض الجزائر و استعمارها:

كانت هناك اتفاقات بين فرنسا و محمد علي حول طرق احتلال الجزائر، حيث كان النفوذ الفرنسي قويا في مصر بفضل المساعدات التي قدمتها فرنسا و بسبب مخاوف محمد علي من روسيا و بريطانيا و حاجته إلى تأييد فرنسا و مساعدتها في إنجاز مشاريعه السياسية التي كان يحلم بتحقيقها على حساب الإمبراطورية العثمانية الهرمة و كانت فرنسا تقدر أنها بفضل صداقتها لمحمد علي و مركزها

القوي في مصر ستفيد فائدة كبرى فيما إذا نجح محمد علي في إقامة الإمبراطورية العربية26

و يضيف المؤرخون أدلة على ما سبق بما فعله قنصل فرنسا العام في مصر الذي:

شرع منذ 1826 يحول اهتمام محمد علي نحو شمال إفريقيا حيث يستطيع إنشاء إمبراطورية تمتد من مصر حتى المحيط الأطلسي و أكد هذا القنصل أن احتلال الجزائر لن يكون أمرا صعبا على الجيش المصري و قد ثبت كفاءته في السودان و الحجاز27

يتمادى سلامة موسى عبر كتابه في تضخيم دور نابليون و يصل إلى مستوى يستوقف الانتباه فهو يرى أن الإسلام أو تدين المصريين بالإسلام هو الذي وقف أمام مشروع نابليون لتحريرهم؟!!!؟ يقول بالحرف:

نابليون وعد المصريين بأن يكونوا هم سادة وطنهم دون الشركس و الترك و لكن المصريين لم يستجيبوا لأن نابليون مسيحي و هم تعودوا ذل الشركسي و الترك فأصبح الذل عاما28

و يتحول نابليون إلى رمز الديمقراطية و توعية الشعب:

ألف نابليون مجلسا نيابيا من المصريين في القاهرة، للاستشارة فقط لكن الشعب لم يتفهم العبرة في

هذا الإنسان الجديد فنابليون كان ينظر إلى الدنيا بعينين قد رأتا الثورة كما كان يحس بقلب قد عرف أن باريس قد قتلت ملكين لاستبداد هما29

هكذا يتحول نابليون من وجهة نظر سلامة موسى إلى حامل مشروع الحرية و النهضة للمصريين لكنهم للأسف لم يرتقوا إلى مستوى تلك المبادئ.

و تغيب كلية صورة نابليون الاستعماري أو المهين للمقدسات و يرفع إلى درجة الأنبياء و القديسين.

و يقول سلامة موسى بتعبير يوضح بجلاء الخلفية التي ينطلق منها في إرساء قواعد لنهضة مصر الحديثة:

و الحق أن نابليون لم يكن جنديا عظيما فقط بل كان إنسانا جديدا، كما نرى مثلا في جلبه

للمعلمين إلى مصر و من تأليفه لجنة لسن القانون الذي يعزي إليه و هذا القانون الذي أخذنا نحن به

أيام إسماعيل و كان نابليون يتدخل في أعمال اللجنة التي كانت تسنه و كان يشير عليها بما يجب من حذف أو إثبات أو تنقيح30.

و أمام عظمة هذا الرجل يرى سلامة موسى أن الشعب المصري كان أبلها و جامدا و لا مباليا و السبب حسبه يمكن تلخيصه في:

الجمود الذي يغشى الشرقيين أو بعضهم الآن بأنهم لا يزالون يعيشون في وسط زراعي قروي يشجع الإنسان على أن يكون أبلها يحترم جميع التقاليد و يسلم بجميع العقائد و يقنع بعيشه31

يفهم مما سبق أن الخضوع لنابليون و تقاليده و قيمه خضوع الأموات بين أيدي الأحياء لا يعتبر بلاهة بل بالعكس هو النباهة بعينها التي لن تكون من نصيب هذه الشعوب الشرقية ما لم تتحرر من شرقيتها.

تفسير سلامة موسى لسبب رقي الغربيين يبدو سطحيا جدا بالمقياس النهضوي الذي يبحث عن عناصر القوة التي تتحكم في المجتمع و بإمكانها أن تحركه نحو التغيير الإيجابي:

نفسر رقي الغربيين بأن معظمهم يعيشون في المدن التي يجبرهم مجرد السير في شوارعها على أن يكونوا أذكياء متنبهين و هم في هذا الوسط المدني يرتأون الرأي و ينقضونه و يرون في التقاليد شبهات و في الجمود كارثة32

موازنة بين الغربي الذي يمثل نابليون أرقى نماذجه و الشرقي و يمثله هؤلاء الرافضون لكرامات نابليون، الغربي يرفض التقاليد و الجمود و الشرقي يتشبث بها و لابد من أن يتنكر الشرقي لتقاليده ليصل إلى الرقي و النهضة و المغالطة هنا هل فعلا الغربي متحرر من كل تقاليده و ماضيه و معتقداته؟

و هل فعلا ليس أمام الشرقي إلا استنساخ النموذج الأوربي؟

و عندما يتحدث سلامة موسى عن الفترة التي كانت الدولة العثمانية أقوى من أوربا فهو يشير إلى أن ضعف أوربا أمام الشرق كان لصالح نهضة أوربا حتى لا تسقط في حبائل تخلف الأتراك:

سقوط القسطنطينية في يد الأتراك أدى إلى نهضة أوربا، حيث أن الكثير من المثقفين من هذه الدولة

نزحوا إلى روما و باريس و علموا الأوربيين اللغة الإغريقية، فتمكن الأوربيون من الاتصال بالتراث

الإغريقي القديم33

و يقرأ سلامة موسى تراث المسلمين قراءة تكرس التفوق الطبيعي للأوربي و التخلف الطبيعي للشرقي:

كل ما نجد من كشوف علمية عند العرب يرجع إلى الفنون المتصلة بالطبقة الحاكمة مثل الخزف و الحرير و الورق34، و الأدب كان صنفين: صنف لتسلية الملوك مثل الأغاني للأصفهاني و صنف لدراسة الآداب التقليدية مثل الكامل للمبرد35.

و كان الملوك يعيشون بالتقاليد و كان الأديب يكتب للملوك الذين يعتمد في عيشه على بقائهم36.

ما يورده سلامة موسى من بعض زوايا التراث الإسلامي ليس هو كل ما في التراث كما أن تشجيع بعض الحكام لاتجاه معين في الاجتهادات لا يعني نقص عقول المسلمين و لكن سلامة موسى لإثبات أن لا مفر للعرب من إتباع النموذج الأوربي ليتمكنوا من الحياة يمعن في إثبات أن لا أصالة فكرية حرة عندهم و لا أسس حقيقية لتطور و نهضة و ما عرفوه من تفوق كان بفعل عوامل موضوعية تقترب من الحظ و الصدفة.

فسلامة موسى يرى أن الأسباب الكامنة وراء كون العرب كانوا أرقى الأمم في العالم من 700 إلى 1300 م هي:

– أنهم كانوا يملكون البحار.

– البحر المتوسط أقرب إلى أن يكون بحيرة عربية.

– المسلمون من العرب و غير العرب كانوا يقطنون أقاليم مترامية من الصين شرقا إلى المحيط

الأطلنطي غربا مما جعلهم يختلطون بالكثير من الأمم و يعرفون الكثير من الصناعات و

التجارات مثل موسى بن ميمون الفيلسوف المصري اليهودي أيام صلاح الدين37

و يورد سلامة موسى بعض الأسباب الكامنة في تاريخ العرب و التي تمنعهم من الرقي و التقدم العلميين و الاكتفاء بمظاهر سطحية للتفوق فيرى أن:

– تحريم الرسم أدى إلى عرقلة العلوم جميعها و تحريم الرسم كان في الأصل مقصورا على رسم البشر

و لكن الرسم باعتباره فنا كان لا يتجزأ فإذا حرمنا رسم البشر حرمنا أيضا رسم أعضاء الجسم

للحيوانات و النبات، و الطب لا يمكنه أن يكون علما بغير الرسم و التشريح38

و هذه مغالطة من سلامة موسى لأن العرب عرفوا التشريح و عرفوا الرسم العلمي و عرفوا تطور الطب و علوم أخرى بل ربما يمكن القول أنهم تفوقوا في هذه العلوم تفوقا ظاهرا جعل الباحثين يتساءلون لماذا لم يتفوقوا أيضا في العلوم الإنسانية و الاجتماعية.

يتناول سلامة موسى أيضا مسألة شغلت المفكرين كثيرا و هي مسالة الرق و هو لا يركز فيها إلا على الجانب الاقتصادي بطريقة تذكر بالتحليل المادي للمذهب الماركسي حيث يقول:

أعظم ما أخر العلم عند العرب هو الرق: لأنه ما دام عندنا عمال أرقاء يعملون بلا أجر فإننا لا نحتاج إلى الاقتصاد و لذلك لا نخترع و لا نكتشف، فالنهضة في أوربا بعثت بعد إلغاء الرق الزراعي حيث أصبح العامل مأجورا يكلف عمله مقدارا من المال فكان اختراع الآلة للاستغناء عنه39.

يلاحظ مما أورده سلامة موسى التناقض البادي بين فكرته هنا و فكرته السابقة عن التخلف المنطقي للمجتمع الزراعي فهو هنا يرى أن الزراعة دافع لتطور الصناعة و العلم لأنه من غير المعقول الحديث عن رقي مجتمع و تطوره إذا أهمل أمنه الغذائي، فكرة سلامة موسى عن الرق في الفكر الإسلامي فكرة جامدة فمعاملة العبيد في الإسلام محكومة بقواعد تحمي إنسانيتهم، و بين بعض المفكرين أن الإسلام في روحه يدفع دفعا إلى القضاء التدريجي على هذه المظاهرة التاريخية و كان على سلامة موسى هنا أن يتذكر استرقاق شعوب كاملة من أجل مصانع أوربا و كيف أن التقسيم الدولي للعمل جعل المستعمرات مجرد أسواق و ممول بالمواد الأولية و يستوي في الدفاع عن هذا الاسترقاق الاشتراكيون و الرأسماليون في أوربا.

 

يتفق جل الباحثين الموضوعيين أن وضعية المرأة في أي مجتمع مؤشر موضوعي و هام في قياس درجة نهضة أي مجتمع و هو ما يقره سلامة موسى:

أعظم مظاهر النهضة الصادقة في أية أمة هو نهوض المرأة التي تطرح بقايا الاستبداد و الاستعباد و تستقل من سجن المنزل إلى ميدان المجتمع لتعمل و تكسب40

يرى سلامة موسى أن الميدان الذي يبرز فيه تحضر المجتمع من خلال المرأة هو عملها و خروجها من

المنزل لتعمل و تكسب و الطرح بهذه الطريقة هو أقرب إلى التمرد الفوضوي منه إلى البحث عن

الفعالية، و المنزل فعلا سجن عندما يتحول إلى قضبان تحبس الأنفاس و المواهب، و لكن البديل ليس

الهروب منه و لكن تفعيله و ربطه بفعاليات الواقع وفق قيم تحترم إنسانية كل أفراد المجتمع.

الصورة التي يرسمها سلامة موسى لهذه المرآة المتحررة من سجن البيت تختلط فيها ملاحظات موضوعية واعية بملاحظات غريبة كقوله:

أنا لا أقول بالرقص للسيدات المتزوجات و لكني أقول به للآنسات و الشبان و أعني بالطبع الرقص الأوربي، ذلك أن لهذا الرقص تأثيرا كبيرا بل كبيرا جدا في تكوين الشخصية، شخصية الشاب و شخصية الفتاة، الرقص يدرب كلا منهما تدريبا اجتماعيا على المؤانسة و الشهامة و الرشاقة كما أنه سبيل للتعارف41.

و يرى سلامة موسى ضمن طرحه النهضوي لمجتمع مصري جديد:

نحن الرجال و النساء يجب ألا ينفصل أحد جنسينا عن الآخر لأننا عندما ننفصل نقع في شذوذات جنسية بشعة بل نقع أيضا في شذوذات ذهنية و عاطفية42 .

حياة المسلمين في حثهم و سعيهم لتحقيق مجتمع مستقيم و ناهض لا تطرح مثل هذه المشاكل التي

صنعتها سنون التخلف و الانحطاط البعيدين عن روح الإسلام ، فلم يسمع أن مجتمع الرسول صلى

الله عليه وسلم عرف الفصل بين الجنسين كما يصوره واقع المجتمعات الإسلامية المتخلفة التي يتحرك فيها الرجال في مفاصل المجتمع و تختفي النساء وراء جدران البيوت تقاوم لفحات أفران المطبخ و صراخ الأطفال و تذمر الأزواج و لم يعرف كذلك المجتمع القدوة التسيب الذي سقط فيه المتمردون الذين خرجوا من التخلف إلى الانحلال.

سلامة موسى يموضع جهوده في إنهاض وضعية المرأة ضمن تيار فكري عرف الغرب و تشرب قيمه و حاول بعد استيعابها تحريك الأوضاع في المجتمعات العربية، كل ذلك ضمن منظورات خاصة أو اجتهادات خاصة تقترب أو تبتعد بهذا القدر أو ذاك عن النموذج الأسلم و العامل المشترك بينها جميعا هو الإحساس بالمشكلة و ضرورة إيجاد حلول جذرية لها:

رفاعة الطهطاوي و قاسم أمين، كلاهما عاش في باريس و لكن قاسم أمين كان انضج و أبصر في التفطن لمعاني الحضارة الأوربية، و لذلك دعا إلى السفور أي دعا إلى اختلاط المرأة بالمجتمع تدرس شؤونه و تحيا الحياة المستقلة التي تمليها عليها شخصيتها و نحن الآن أكبر من قاسم أمين و من رفاعة الطهطاوي لأننا ارتقينا إلى فهم جديد لمقام المرأة43

دعوة سلامة موسى إذن تريد أن تذهب إلى أبعد مما ذهب إليه الطهطاوي و قاسم أمين اللذان درسا في باريس، و سلامة موسى يعتبر الفرنسيين هم بناة النهضة الحديثة في مصر من خلال وقوفهم وراء محمد علي باشا و يعتبر أيضا نابليون فاتح مصر الحديثة و مدخلها إلى نادي الدول الحية، و رغم هذا الطهطاوي يطلب للمرأة أكثر مما وصلت إليه المرأة الأوربية أي أكثر مما طالب به الطهطاوي و قاسم أمين.

يذهب سلامة موسى إلى اعتبار تعدد الزوجات اعتداء على إنسانية المرأة فيقول متوجها إلى المرأة:

المساواة بين الجنسين تقتضي الزواج من امرأة واحدة و الرجل الذي يتزوج بأكثر من واحدة إنما يلعب و يعبث بإنسانيتك و يحيلك إلى أنثى فقط44    

سلامة موسى ابن مجتمع يعد فيه تعدد الزوجات حق إلهي للزوج ليس إزاءه أية واجبات إنسانية حقيقية، يعرف جيدا ما تثيره مثل دعوته تلك و التي حمل لواءها غيره أيضا من المفكرين و ما زالت مثار جدل يشغل العقول و الأعمار.

يواصل سلامة موسى خطابه للمرأة فيقول:

عليك قبل الزواج أن تتعلمي حرفة أو صناعة حتى لا يحملك عجزك عن أن تعولي نفسك على الارتماء و الرضى بأي زوج يحمل عنك هذا العبء45.

هذه الفكرة ليست جديدة أيضا بل أن الأخلاق الإسلامية ذاتها ترفض العطالة و الكسل لأنهما يؤديان إلى الانحرافات بجميع أنواعها و أخطرها البحث عن أسهل السبل لتحقيق ابسط الحاجيات من غير جهد إنساني حقيقي و مثمر يعطي للذات استقلاليتها الإيجابية.

و وجود المرأة الإيجابي بالنسبة لسلامة موسى هو أيضا في اهتمامها بأمور أمتها و دافع سلامة موسى عن حق المرأة في الترشح و الانتخاب شارحا أسباب ذلك بقوله:

الدافع وراء المطالبة بمنح المرأة حق الانتخاب و الترشيح للبرلمان هو:

– إحساس الإنصاف نحوها.

– المسؤولية الجديدة هذه ستجعلها تهتم بالمجتمع فتزيدها يقظة و تدفعها إلى الاهتمام بدراسة

السياسية و قراءة الصحف و الكتب أي إنسانيتها46. 

و معلوم أن المرأة الأوربية لم تنل حق الترشح و الانتخاب إلا متأخرا جدا و سلامة موسى مدرك أن

الحق السياسي هذا لا معنى له إذا لم يرتبط بحق التعلم و حق العمل و حق الخروج و غيرها.

وردا على كل اعتراضات ممكنة تنطلق من فكرة أن المرأة مجمع سوء الأخلاق، يقول سلامة موسى:

((إن الرجال يتهمونك بأنك غير ذكية، غير شجاعة، غير سخية، غير بصيرة، لم تتفوقي في الاختراع أو الاكتشاف و لم تبرزي في العلوم أو الفنون و كل هذه التهم صحيحة و لكنها صحيحة لأنك تمضين حياتك محبوسة بين أربعة جدران في البيت و لو قدرنا نحن الرجال أن نحبس كذلك لكنا في هذه الحال التي تتهمين أنت بها))47

التشخيص الذي يقدمه سلامة موسى لا يختلف حوله عقلان موضوعيان، لكن هناك من يحصي الأسباب الفيزيولوجية و النفسية لدونية المرأة و يعرضها بما يجرد المرأة من كل إنسانية كما فعل المودودي في كتابيه: ” الحجاب” و ” نحن و الحضارة الغربية” و بعد ذلك يقول هؤلاء أن أهم مهمة للمرأة في الوجود هي التربية و أنى لها أن تربي و هي آلة مريضة و عقل سخيف؟ ربما كان المجتمع العربي المحسوب على الإسلام بحاجة إلى أكثر من الردود التي تثبت أن ما يقوله بعض العلماء عن ضعف المرأة الفيزيولوجي و النفسي هو رأي يد حضه علماء آخرون ، هل من علامات الضعف تحمل جنين لمدة تسعة أشهر و تربيته و القيام بأعباء تعرف ثقلها نساء الأرياف اللواتي يقطعن المسافات الطويلة لجلب الماء و الحطب و غيرها من الأعمال.

لاحظ سلامة موسى الظلم المسلط على المرأة و في ثورته على ذلك الظلم سقط في ظلم من نوع آخر، ظلم يجعل المرأة تجري وراء كل فرصة تنتقم من خلالها من كل سنين القهر و القتل البطيء وفي مثل هذا الجري تضيع الكثير من الجهود و تقع الكثير من الأخطاء، سلامة موسى المسيحي لا يمكنه أن يدافع عن إسلامية المجتمع المصري و ليست مسيحيته وحدها السبب و لكن أيضا الإسلام الذي يتبناه المجتمع و هو إسلام بعيد عن صفائه الحقيقي و صورته الأصلية لذلك لجأ هو و غيره من المسلمين أيضا إلى تبني نموذج نهضوي بعيد عن الدين.

يرى سلامة موسى أن تحقيق النهضة يقتضي استثمار كل جهود القادرين على العطاء في المجتمع و يقع على عاتق المرأة وفق هذا المنظور مسؤولية أثقل من مسؤولية الرجل و لم ينف سلامة موسى حق المرأة في الأمومة و الزواج و واجباتها ضمن هذه الوضعية و لكنه يبين أن النهضة و العمل المفيد بحاجة أيضا إلى ذكائها و جهودها: يقول سلامة موسى:

حسن و جميل أن تكون المرأة زوجا و أما و لكن واجبات الزواج و الأمومة لا يمكن أن تستغرق كل الوقت، النهار و الليل عند المرأة المتعلمة و لذلك يجب عليها أن تستغل معارفها و مهارتها في عمل اجتماعي آخر إلى جانب الزواج و أبنائها كما على الرجل أن يحيا حياته مثل المرأة لنفسه أولا ثم لمجتمعه و زوجته و أبنائه48.

تعليم المرأة كيف تنتبه إلى نفسها عملية صعبة جدا في مجتمع عود المرأة على أن تلغي وجودها أمام والدها و أخوتها49 ثم زوجها و عائلته ثم أبنائها و أحفادها و تنتهي حياتها و هي لا تعرف نفسها و خطورة هذه الوضعية تكشفها حالات اليتيمات اللواتي وجدن أنفسهن فجأة في مواجهة الحياة و كذا الأرامل و الأيامى فوقعن في أخطاء جسام على كل الأصعدة لقلة التجربة و لشراسة المجتمع أمام المرأة التي يظهر لها وجود خارج الأطر المريحة لذكورة الرجل في سعادة وهمية و رضى بالقضاء و القدر يشبه الموت البطيء .

يقول سلامة موسى و هو محق في ذلك للمرأة:

(( أنت إنسان لك حق الحياة و اقتحام التجارب البشرية و حق الإصابة و الخطأ لأنك بغير ذلك لا تحصلين على تربية إنسانية أي لا تكبرين و لا تنضجين بل تبقين طفلة و لعبة و لو بلغت الستين أو السبعين من العمر50

 

هذه الأفكار التي يطرحها سلامة موسى ليست جديدة فقد طرحها قبله قاسم أمين و الطهطاوي و غيرهما و هي أفكار فيها الكثير من الصواب و لكنه صواب ناقص لأنه لم يبحث عن ترسيخ أقدامه في الواقع من خلال الارتباط بالركائز الحقيقية التي يمكن فعلا أن تنطلق منها نهضة، ففي مجتمع لم يرتد عن إسلامه لا يمكن البحث عن نهوضه إلا بتفعيل عناصر القوة في هذا الدين و البحث الاجتماعي كما فعل سلامة موسى. و من سوء حظ العالم الإسلامي فإن:

الأقطار التي عذبها الاستعمار الأجنبي هي التي ظهرت فيها نهضات نسوية51

و يرجع بعض الباحثين سبب وضوح أفكار سلامة موسى و محاولته الفهم العميق لأسباب انحطاط مجتمعه و سبل النهوض به إلى أنه كان:

أول المفكرين العرب الذي تجرأ و نقل إلى العربية أفكار روسو و فولتير و ديدرو و تولستوي و غوركي و غيرهم، و نشر أول كتاب عربي يشرح مبادئ الاشتراكية تحت عنوان: ” الاشتراكية” بعد عودته من فرنسا و هي اشتراكية بعيدة عن اشتراكية ماركس العلمية، فهو من أتباع الفابية الإصلاحية الرافضة للصراع الطبقي52

أي أن اهتمامه بفهم المجتمعات الأخرى أعانه على فهم مجتمعه و البحث الدءوب عن عناصر القوة و الضعف فيه.

سلامة موسى إذن حمل الهم النهضوي و كان منبهرا بالنموذج الأوربي، قرأ الحضارة الأوربية وفق منظوره الخاص و التفت إلى التراث العربي التفاتة صغيرة اخذ خلالها ما يفيد طروحاته المركزة أساسا على المستقبل، الذي يراه ضمن المنظومة الأوربية التي أصبحت تمثل الإنسانية و رأى أن المرأة الأوربية لم تحقق إنسانيتها فنموذجها يجب أن يتجاوز في العالم العربي.

و غابت كثيرا الروح النقدية لسلامة موسى إزاء التراث الأوربي عكس الحضور الظاهر لهذه الروح في تحليل الأوضاع الداخلية للعالم العربي.

 

يمثل سلامة موسى نموذجا صريحا للتماهي مع الآخر و جلد الذات و لا يمكن لمن يحطم ذاته أن ينهض لأن النهضة مرادفة للحياة و من يحطم ذاته فهو ميت بكل مقاييس التحليل الفكري الصريح و الصحيح .    

 

الهوامش

 

1-موسى (سلامة): ما هي النهضة و مختارات أخرى، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، الجزائر، 1990. ص 3.

2-ن، م، س. ص 17.

3-ن، م، س. ص 18. مع ملاحظة أن مصر اليوم تتعرض بين الفينة و الأخرى لتهديد الولايات المتحدة بقطع مساعداتها الغذائية لها إذا لم تعجبها بعض إنتاجاتها الثقافية و الإسلامية خصوصا.

4و5-ن،م،س. ص19.

6-ن،م،س. ص20.

7-يقول سلامة موسى في ص 61 من نفس الكتاب: أول واجب قام به الأدباء و العلماء في بداية النهضة الأوربية كان الاستقلال عن سلطان الدين.

8-موسى (سلامة): ما هي النهضة…..م،م،س. ص236.

9-ن،م،س. ص134.

10-ن،م،س. ص233.و للأسف هناك إلى اليوم في العالم الإسلامي و العالم الثالث عموما من يدافع عن هذا المبدأ و حالة الجزائر مع معضلة اللغة دليل على ذلك: حيث الرئيس يتحدث إلى شعبه باللغة الفرنسية.

11-موسى (سلامة): ما هي النهضة…..م،م،س. ص127.

12-   موسى (سلامة): ن ،م،س. ص132.

13- ن،م،س. ص133.

14و15-ن،م،س. ص124.

16و17- ن،م،س. ص124وص125.

18- ن،م،س. ص125.

19- موسى (سلامة): المرأة ليست لعبة الرجل ، دار مصر للطباعة ، القاهرة ، مصر ، 1960. ص 44.

20- ن،م،س. ص64.

21-   ن،م،س. ص71.

22و23-موسى (سلامة): ما هي النهضة…..م،م،س. ص 117.

24-   ن،م،س. ص186.

25-   ن،م،س. ص187.

26و27-فارس (محمد خير): تاريخ الجزائر الحديث من الفتح العثماني إلى الاحتلال الفرنسي دار الشـرق بيروت، لبنان. ص 166 و ص 167.

و الكفاءة في السودان و الحجاز هي محاولة جيش محمد علي احتلال المنطقتين و انتصاره في بعض معاركه في هذين البلدين.

28- موسى(سلامة): ما هي النهضة….. م، م، س. ص 185.

29-   ن، م، س . ص 186.

30-   موسى(سلامة): ما هي النهضة….. م، م، س .ص 187.

31-   ن، م، س .ص 51.

32-ن، م، س. ص 52.

33- موسى(سلامة): ن،م، س. ص 119 و ص 120.

34- ن، م، س .ص 162.

35-     ن، م، س. ص 166.

36-   ن، م، س. ص 167.

37-ن ، م ، س. ص 31.

38-   موسى(سلامة): المرأة ليست لعبة….. م، م، س .ص 161.

39- ن، م، س ص 162.

40-   ن، م، س. ص 80.

41-   موسى(سلامة): ما هي النهضة….. م، م، س. ص 89.

42-ن، م، س. ص 9.

43-موسى(سلامة): المرأة ليست لعبة….. م ، م، س. ص 61.

  1. 44و45-، ن م، س. ص12.

46-موسى(سلامة)، ما هي النهضة …م ، م، س. ص 35.

47-   المرأة ليست لعبة الرجل…. م، م، س. ص ص 7.

48- موسى(سلامة):ن، م، س. ص 5.

49- يقول المودودي في كتابه الحجاب ص 260: كما أن المرأة المتزوجة تابعة لبعلها كذلك البكر تابعة للرجال المسئولين من أسرتها.

و يقول في ص 50: أقصى ما أوتيت المرأة من الحرية في الاجتماع الإسلامي هو أن تبدي وجهها و يديها إذا دعت الضرورة و أن تخرج من بيتها لأوان الحاجة.

50- موسى(سلامة):المرأة ليست لعبة….. م، م، س. ص 6.

51- موسى(سلامة): ما هي النهضة….. م، م، س. ص 207.

52-مقدمة ماضي ( مصطفى): لكتاب ” ما هي النهضة” و هي دراسة موثقة.